مقدّمـة
أحمد الشقيري قائد عربي فذ. سواء نظرنا إليه بالمطلق، بين المئات من القادة العرب الذين ظهروا على الساحة السياسية في القرن العشرين (وهو قرن التحرّك السياسي، الوطني والقومي، وما عبّر عنه هذا التحرك بانتفاضات وثورات وما أدى إليه من تحقيق كامل أو مجتزإ للاستقلال والتحرّر والسيادة)، أو إذا كانت النظرة بالمقارنة مع غالبية القادة السياسيين العرب. وهو، بهذه الصفة، يستحق الدرس لتتبع أعماله وأفكاره، ولاستخلاص العبر واستنطاق الحقائق والوقائع التي حفلت بها سيرته الطويلة.
ليس غريباً، إذن، أن تشهد ساحاتنا الفكرية والثقافية العربية في السنوات الخمس والعشرين الأخيرة التي مضت على رحيل الشقيري محاولات جادة للتعرف عليه والتعريف به، ومن ثم لدراسة ما حفلت به حياته من إنجازات وما اتخذه من قرارات وما أنشأ من مؤسسات وما خلّفه من آثار وما صَدَرَ عنه من مواقف وآراء وأفكار. ولعل ندوة القاهرة في الذكرى الخامسة والعشرين لرحيله (التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربية في القاهرة 14 ـ 15 أيار/مايو 2005 وشارك فيها العشرات من أهل العلم والاختصاص)(1) هي أحدث هذه السلسلة الطويلة من إطلالات الفكر العربي المعاصر على أفكار هذا الزعيم الكبير وأعماله؛ تماماً كما كانت دراسة الباحثة خيرية قاسمية المطوّلة والمفصّلة عنه في كتابها المنشور عام 1987(2) الانطلاقة العلمية الأولى في تأريخ الرجل الذي أسهم في صنع التاريخ العربي المعاصر.
غير أن أية محاولة لدراسة أحمد الشقيري وحقبته تظل محدودة المدى ومقصرة في بعض جوانبها ما دامت تجري وجزء من آثار الرجل وكتاباته غير متوافر لدى الباحث. فقد نشر الشقيري في حياته العشرات من الكتب والمقالات وألقى العشرات من الخطب والمحاضرات ودوّن العشرات من المذكرات والتقارير، فترك وراءه كمّاً حافلاً (بل هائلاً) من الأدبيات السياسية والقانونية والتاريخية، منشوراً في عشرات المصادر والمراجع وموزعاً بين عشرات المدن ودور الحفظ أو النشر (إلى جانب الكثير مما هو مدوّن ولم يسبق طبعه ونشره، أو مما طبع ولكن لم ينشر على نطاق واسع)، وذلك في مدى زمني طويل يمتدّ إلى أكثر من ثلث قرن. ولا شك أن عملية حصر هذا الكم الحافل والهائل من هذه الآثار، والاطّلاع عليها، عملية مرهقة جداً قد تنوء بحملها جهود الباحث الراغب في دراسة الشقيري والكتابة عنه وعن مرحلته.
من هنا تبرز أهمية هذه المحاولة الرائدة التي شرع بها مركز دراسات الوحدة العربية، بالتعاون مع أسرة الشقيري ولجنة تخليد ذكراه، في جمع تراث الرجل الكامل ونشره في كتاب واحد (في عدة مجلدات)، انطلاقاً من سياسة المركز العلمية بنشر تراث رموز الفكر العربي المعاصر الوحدوي والقومي في مجلّدات يصحّ أن نسمّيها الأعمال الكاملة أو شبه الكاملة. (ومن بين هؤلاء الرواد ساطع الحصري وقسطنطين زريق وعبد الله الطريقي وياسين الحافظ وعبد العزيز الدوري…). وبعد صدور كتابنا الموسوعي هذا يسهل على أي متتبع في المستقبل لتاريخ الشقيري وآثاره السياسية والفكرية أن يخوض غمار بحثه بثقة وبسهولة نسبيتين اعتماداً على الجهد الذي بذلته محرّرة الكتاب، الدكتورة خيرية قاسمية، وهو جهد كبير وقيّم بلا شك.
إني إذ أصف المجموعة الكاملة (أو شبه الكاملة) لأعمال أحمد الشقيري بالعمل الموسوعي فإنما لأن الرجل نفسه كان موسوعياً بما يعنيه هذا اللفظ من سعة في حقول المعرفة وشمول في الاهتمامات والتخصّصات وتنوّع في المواهب والكفايات وتعدّد في الطاقات والقدرات والمهارات. الرجل الموسوعي محيط واسع تطول شطآنه وتعمق مياهه وتتكاثر كنوزه وتتنافر تقديماته. وهو، بهذه الميزات، نقطة جذب للراغب في المعرفة لأن يغوص في هذا البحر ويخوض أبعاده ليحصل على ما يستطيع أن يحصل عليه من بنود المعرفة ومداخلها ومحاصيلها.
ننظر إلى أحمد الشقيري، رجلاً وسيرة، «نظرة الصقور» (كما يقولون بالإنكليزية، أي من بعيد وعلى مسافة واسعة تاريخياً وجغرافياً)، باحثين عن القمم والشواهق في صفاته الشخصية وحياته العملية، متجنبين التفاصيل والجزئيات التي تكوّن بمجموعها تلك القمم ولكنها تتعدد وتتناثر حتى يكاد الإنسان يتيه وهو يسعى لجمعها وحفظها وتسجيلها.
عرفنا، نحن أبناء النصف الثاني من القرن الماضي، أحمد الشقيري سياسياً فلسطينياً بارزاً. وكان أحد قادة العمل الوطني لمدة تزيد على أربعين عاماً تنقّل خلالها في ميادين متعدّدة في خدمة بلده وقضيته خدمات جلّى. من محامٍ بارع يتولّى الدفاع عن المظلومين من بني شعبه ممّن ينالهم ظلم حكم الانتداب البريطاني المتآمر مع المخطط الصهيوني، (وهو دفاع كان يؤمّن البراءة للمدّعى عليهم، كما كان تطوّعاً مجانياً، في معظم الحالات)، إلى إعلامي يتجنّد للدفاع عن القضية الفلسطينية في المحافل الدولية (يبرز في المكتب العربي في القدس ثم يؤسس المكتب العربي في واشنطن ثم يترأّس وفد فلسطين إلى الأمم المتحدة في سنة 1948 العصيبة جداً بالنسبة إلى مصير فلسطين ـ ويكون المكتب العربي، بفضله، أبرز مؤسسة وطنية علمية تولت عرض المأساة الفلسطينية على العالم في تاريخ فلسطين الطويل الممتد إلى قرن من الزمان)، إلى دوره في جامعة الدول العربية كأمين عام مساعد 1951-1957 ثم كممثل لفلسطين في مجلس الجامعة 1963. إلى إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية، كأول إعلان عملي عن الكيان الفلسطيني، وإلى رئاسة هذه المنظمة لمدة تزيد على ثلاث سنوات ونصف السنة (من أواسط 1964 إلى آخر 1967). وهو، في تحمّله هذه المهام كلها، وتدرّجه في المسؤوليات الجسام، الابن البار لقضية شائكة محفوفة بالمخاطر والقائد المحنك لشعب يناضل من أجل حقوقه وحريته.
وعرفنا الشقيري مناضلاً عربياً إلى جانب نضاله الفلسطيني. فمن الجهة الأولى تعامل مع الأقطار العربية كأنه أحد رعاياها. ولم يكن يؤمن بالحدود الفاصلة بين فلسطين وجاراتهاالعربيات. وكان يتحرك ويتصرف قافزاً فوق تقسيمات «سايكس ـ بيكو» وما فرضته السياسة الاستعمارية من حدود مصطنعة. ترأس الوفد السوري، ثم السعودي، إلى الأمم المتحدة من 1952 إلى 1963. وكان في الأمم المتحدة خطيباً مدافعاً عن الأقطار العربية التي تداولت الهيئة الدولية بأمورها دفاعات قوية لا تقل عن قوة دفاعه المستمر عن الحق الفلسطيني. وكان له بالتالي إسهام كبير في مناصرة النضال التحرري في كل من المغرب والجزائر وتونس ومصر وعُمان واليمن الجنوبي.
ومن الجهة الأخرى لم يقتصر الإيمان العربي عند الشقيري بخطبه النارية ومساعيه الدبلوماسية وعلاقاته ومداخلاته القانونية في الأمم المتحدة، إذ إنه كان مفكراً قومياً عربياً من الناحية النظرية والعقائدية والثقافية. سعى، منذ مطلع الأربعينيات، إلى إنشاء حزب قومي عربي في فلسطين مع عدد من زملائه المثقفين الفلسطينيين العروبيين. وجرى أكثر من اجتماع عقد لهذا الغرض (وكان معظمها في حيفا)، بالتوافق مع «الحركة العربية» التي أنشأها الدكتور قسطنطين زريق في أواسط الثلاثينيات في لبنان وامتدت إلى سوريا والعراق وشرق الأردن وفلسطين. وإذا لم يرَ الحزب النور آنذاك، فإن الشقيري استمر على إيمانه العربي وأصدر أكثر من دراسة رصينة في مشروع الوحدة العربية وضرورتها ودستورها.
إلا أن عروبة الشقيري أكثر ما تتجلى، عملياً وواقعياً، في تعاطيه الدائم والمتواصل مع المسألة الفلسطينية كقضية قومية عربية. لم يفصل في يوم من الأيام بين مسألة هذا القطر الذبيح والسليب وهذا الشعب المظلوم ثم المقتلع وبين القضية القومية الشاملة التي تلفّ الأمة العربية كلها من محيطها إلى خليجها. وفلسطين، بالنسبة إليه، عربية شعباً وكياناً وثقافةً وآمالاً وطموحاً، لا يتم تحريرها إلا من خلال الجهد العربي العام؛ ولا مستقبل لها إلا ضمن المستقبل العربي الشامل. هي جزء من كلّ ماضياً وحاضراً ومستقبلاً. وكان يرى في الخطر الصهيوني المدعوم بالشره الاستعماري تآمراً على الوطن العربي كله ولا ينحصر في الرقعة الفلسطينية من هذا الوطن. وهو الأمر الذي يستدعي أن تكون مجابهة هذا الخطر مجابهة عربية لا تنحصر في الجزئية الفلسطينية. وقد عبّر الميثاق القومي الفلسطيني عن هذا الإيمان القومي خير تعبير (1964). ومن المؤسف أن من أوائل الإجراءات التي اتخذتها القيادة الفلسطينية بعد اعتزال الشقيري كان تعديل ذلك الميثاق وتحويله إلى «ميثاق وطني فلسطيني» تبعته سلسلة من الإجراءات التي ركّزت على «فلسطينية» النضال والمؤسسات على حساب عروبته وعروبتها. وباختصار، كان يسيطر على الشقيري هاجسان مترابطان ومتداخلان يكوّن كل منهما صفحة لورقة نضالية واحدة، تحرير فلسطين ووحدة العرب. وقد أخلص الرجل لهذين الهدفين طيلة حياته.
وعرفنا أحمد الشقيري رجل ثقافة من الطراز الأول. لا أقيس هذا الحكم بشهادات أكاديمية نالها (وقد طردته الجامعة الأميركية في بيروت من صفوفها بسبب نشاطه السياسي)، ولا بعلوّ كعبه كمحامٍ بارز (بعد أن تخرّج في معهد الحقوق في القدس 1931 وقد انتخبه محامو القدس نقيباً لهم 1941). ولا بعدد الكتب والبحوث التي وضعها ما بين الأربعينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وإنما اعتمد في الحكم عليه كعلم ثقافي بارز على نوعية كتاباته وأبحاثه ومستواها الأكاديمي والفني الرفيع. وقد ساعده على تحقيق هذا المستوى أمران: أولهما سعة اطلاعه، فكان يقرأ باستمرار. وخلّف وراءه مكتبة ضخمة لا أغالي إذا قلت إنها أغنى مكتبة خاصة لسياسي فلسطيني (وربما من أغناها لرجل سياسي عربي). وقد واظب على المطالعة طيلة مراحل حياته. وكان يمهّد لأية دراسة ويعدّ بالاطلاع على جميع المراجع حول الموضوع المطروح. وثانيهما إتقانه اللغة الإنكليزية. وهو إتقان مكّنه لا من توسيع مطالعاته وتنويعها، بل أيضاً من الكتابة ومن الخطابة بلغة إنكليزية سليمة جداً. وقد حضرت له أكثر من محاضرة أو مشاركة في ندوة باللغة الإنكليزية كان المستمعون فيها، من الأجانب، يعجبون من سلامة لغته ومن قدرته على التعبير عن أفكاره بمنتهى السهولة والفصاحة. أما منشوراته بالإنكليزية فهي تدل على أن كاتبها يتقن اللغة وكأنها لغته الأصلية!
الشقيري المثقف هو الشقيري الكاتب والمؤلف. ولا حاجة لأن أتوسع في موهبة الشقيري في هذا الحقل لأن من يطالع هذه المجلدات سيكتشف بنفسه غنى هذه الموهبة عند صاحبها وخصوبتها وروعتها. فمن السياسة إلى القانون. ومن الأدب إلى التاريخ. ومن اعتبار الماضي إلى تحليل الحاضر إلى استشراف المستقبل. ومن التنقيب إلى السرد والاستنتاج. ومن العرض إلى الجدل. ومن الدفاع عن الحقائق إلى الهجوم على الافتراءات. ومن الاقتناع بالمسلّمات إلى خوض عالم الاجتهاد والابتكار. ومن حفظ التراث الديني والأدبي واللغوي إلى الحداثة والتطور والتطوير. محيط واسع من المعرفة، كما قلت سابقاً، يعبّر الشقيري عنه في كتبه ومقالاته المتنوّعة والمتعدّدة، والممتازة كلها.
إلا أن فناً معيّناً تفوّق فيه أحمد الشقيري على نفسه وعلى غيره من السياسيين ـ الكتّاب العرب، وعلى المثقفين بوجه عام. إنه فن السيرة الذاتية. إن كتبه الثلاثة في تأريخ حياته وأعماله هي، برأيي، الثالثة بعد الأيام لطه حسين و حياتي لأحمد أمين (وهما سيّدا السيرة الذاتية، وقد مضى على صدورهما أكثر من نصف قرن). وإن تفوّق العملان الرائدان في التصوير الأدبي الفني، فقد تفوّقت كتب الشقيري في الوصف السياسي العملي. يضيف إلى قيمة السيرة الشقيرية ما اكتنزه الرجل في كتاباته من صدق وجرأة ودقة وأمانة وصراحة.
أكرّر القول إن الشقيري رجل متعدّد المزايا والمواهب. فهو قائد شعبي لنضال شعبي. وهو رجل سياسة محنّك. وهو زعيم جماهيري. وهو خطيب مفوّه ومحاضر مؤثّر في مستمعيه. وهو محامٍ ورجل قانون بارع. وهو مثقّف ورجل علم. وهو كاتب ومؤلف، لكن يبقى الشقيري في الذاكرة، فوق هذا كله وأكثر من هذا كله، الشقيري الإنسان.
الرجل الإنسان هو ما يعرفه من كان قريباً منه أو من أسعده الحظ بالتعرف عليه ومواكبته في بعض مراحل حياته. كان الشقيري محدّثاً لبقاً. يثري حديثه بذاكرة قوية وبحفظ للشعر وللنوادر وللأمثال ولمرويات التراث. وكذلك بمعرفة تفصيلية لفلسطين، بلداتها ومواقعها، وأهلها وعائلاتها، وعاداتها وتقاليدها المحلية. وكان المتحدث معه، بالتالي، يشعر وكأنه أمام إنسان متخصّص بأوضاعه وحالاته وخلفياته الخاصة جداً به، وكأنه يعرفه منذ سنين ويعرف كل شيء عن منبته ونشأته، حتى ولو كان يقابله للمرة الأولى. كل ذلك في قالب من اللطف والدماثة وحلو الكلام. الرجل الإنسان في الشقيري هو الزعيم الذي مارس القيم الإنسانية في عمله السياسي وفي حياته اليومية ومعاملاته مع الآخرين. كان صادقاً مع نفسه ومع مبادئه ومع شعبه. ولم يتردّد لحظة في خدمة الآخرين. وحريّ بأن نتذكّر أن ممارسته السياسة الرسمية منذ إنشائه منظمة التحرير الفلسطينية 1964 كانت تطوّعية، ولم يكن يأخذ أجراً ولا يطالب بمكافأة.
أسمح لنفسي، وقد شرّفني ناشر هذا الكتاب الموسوعي للقائد الكبير أحمد الشقيري بأن أتولى تقديمه، أن أنبش صفحة الذكريات عنه وعن العلاقة معه، ممّا يلقي المزيد من الضوء على شخصه وشخصيّته.
سبق أن تعرّفت إلى الشقيري صدفة، وإن كنت مثل أي فلسطيني في سنّي أعرف عنه وعن نجاحه كمحامٍ ثم كناشط في الإعلام السياسي والقانوني للقضية الفلسطينية منذ الأربعينيات. كنت في العام 1954 في زيارة للقاهرة. وطلبت مني صحافية بريطانية حديثة العهد بالإقامة في الوطن العربي أن أدبّر لها موعداً مع الشقيري لإجراء حديث لإحدى المجلات التي كانت تراسلها. واتصلتُ به في مكتبه في الجامعة العربية وأخذتها إليه. وبدأت الصحافية تسأله عن رأيه بالأدب العربي المعاصر، وبكتابة الرواية، وبمن يتأثر من الروائيين العرب والأجانب، وغير ذلك من الأسئلة التي بدت غريبة. وأخذتني عدّة دقائق حتى اكتشفت أن الأمر التبس عليها واختلط اسم الشقيري مع الشرقاوي (عبد الرحمن الشرقاوي، رائد الرواية المصرية العربية ومؤلف الأرض ). وشعرتُ بحرج. وقبل أن أحاول تصحيح الوضع كان هو، بلباقته وكياسته، يحاول التخفيف من إحراجي أو إحراجها بالحديث مطوّلاً عن إعجابه بالشرقاوي وصداقته معه وحرصه على إطلاعه على إنتاجه بالرغم من مشاغله في السياسة والقانون والعمل من أجل فلسطين!
أعترف أن مشاعري الأولى حول هذه الحادثة كانت الإعجاب مع المحبة. وشعرت أنه أسرني (مثلما أسر السيّدة الصحافية) بلطفه وبعلمه. ومضت السنوات، وعهد إليّ في 1966، بعد عامين من تأسيس منظمة التحرير، بالإشراف على مركز الأبحاث والشروع بإصدار الموسوعة الفلسطينية ، كان كلاهما حلماً أسعى لتحقيقه منذ سنوات.
آمن الشقيري بالعمل الثقافي الملتزم. وآمن بالعمل المؤسسي. لذلك لم يكن غريباً أن يبادر فوراً إلى الموافقة على اقتراح تأسيس المركز، ثم الموسوعة، وإلى تأمين الجو المناسب لكل منهما. وإن كان مشروع الموسوعة قد تأخّر عدة سنوات، لأسباب مادية وعملية، ولم نشرع بإعدادها إلا بعد وفاة الرجل، فإنه كان لمركز الأبحاث الأب الروحي والسقف الواقي من الهجمات والتهجمات ومن محاولات السيطرة والاحتواء التي شنّها الكثيرون (من قيادات ومؤسسات وفصائل فلسطينية) للاستئثار بالمركز وإخضاعه لسياساتهم ومصالحهم. وللحقيقة والتاريخ أقول إن ما من مسؤول فلسطيني أو عربي تعامل مع المركز في حياته القصيرة (1965 ـ 1982) بالحرص عليه ومساعدته ودعمه واحترام استقلاله والدفاع عنه وتقديم الاقتراحات مثلما فعل أحمد الشقيري، سواء وهو رئيس للمنظمة أو حتى بعد استقالته. وما من سياسي فلسطيني أو عربي استمر يطّلع على نشاط المركز ويطالع منشوراته، ويتردّد عليه ويتجول بين رفوف مكتبته ويستعير منها ويستفسر عن الجديد فيها مثل الشقيري.
لقد دعم أحمد الشقيري منظمة التحرير الفلسطينية بثلاثة أعمدة: جيش التحرير الفلسطيني، والصندوق القومي الفلسطيني، ومركز الأبحاث. ومع أنه رعى هذه المؤسسات الثلاث وساندها ومدّ لها العون بكل طاقاته وقدراته، ظل المركز هو ابنه المدلل وموضع اهتمامه وتفكيره، متردّداً عليه باستمرار.
وفي ختام هذا العرض السريع لشخص أحمد الشقيري ولسيرته الثرية بالعبر، لا يغيب عن البال ذلك الموقف البطولي (والنادر في تاريخنا العربي) حينما أدرك أن الأوضاع الفلسطينية والعربية والدولية في النصف الثاني من الستينيات، وفي ضوء تداعيات الهزيمة العربية في حرب حزيران/يونيو، تفترض تبديلاً في قيادة العمل الفلسطيني. فما كان منه إلا أن كتب رسالة الاستقالة الشهيرة التي وجهها إلى الشعب الفلسطيني مباشرة، وهو الشعب الذي آمن به وخدمه منذ شبابه المبكر، ولم يبخل عليه بوقت أو جهد أو مال أو طاقة. وهكذا أخلص الرجل لفلسطين خلال توليه المسؤوليات الجسام مثلما أخلص لها بتسليم هذه المسؤوليات إلى من حتّمت الظروف أن يخلفوه. وبقي الرجل كبيراً في «السلطة» وكبيراً في التخلّي عنها. ورحل رافع الرأس كما كان دائماً.
كمواطن عربي، فلسطيني المنبت قومي العقيدة، أشعر بالمكرمة الكبيرة التي قدمها مركز دراسات الوحدة العربية للأمة عموماً، ولأهل الثقافة الوطنية خصوصاً، ولكل من لا يزال يعمل ويدعو من أجل تحرير فلسطين (كل فلسطين من بحرها إلى نهرها ومن رفحها إلى ناقورتها) ومن أجل تحقيق الحلم العربي، الذي لا يموت، بالوحدة العربية، في تعهّد هذا العمل الموسوعي الجبّار، بإعداد وطباعة ونشر الأعمال الكاملة تقريباً لأحمد الشقيري، على ما تكلّفه المشروع من تعب ووقت ومال ـ متعاوناً مع ومستفيداً من مساندة أسرة الشقيري الكريمة ولجنة تخليد ذكراه. كما أشكر الجهد المضني الذي بذلته الدكتورة خيرية قاسمية ليأتي الكتاب شاملاً لكل ما استطاعت أن تجمعه من كتابات كثيرة ومتناثرة وبعضها كان مفقوداً تقريباً أو مجهولاً. وهي تثبت في عملها هذا أنها المحرّرة الأولى للوثائق والمراجع في وطننا العربي التي ما فتئت منذ أكثر من ثلث قرن تغني المكتبة العربية بهذه الإضافات الأساسية للمسيرة الثقافية العربية.